على الرغم من أن الحرب انتهت في لبنان في العام 1990، بعد اتفاق الطائف الذي شكل خارطة الطريق الجديدة للبنان الحديث، وعلى الرغم من التغييرات التي احدثتها هذه الحرب رغم ضراوتها، الا ان المفهوم الوحيد الذي دفع القادة اللبنانيين الى الاجتماع في مدينة الطائف السعودية هو الاقتناع بان لبنان لا يحكم بطريقة "الغالب والمغلوب". وبالرغم من وقف الاعمال العسكرية والامنية في لبنان، الا أنه لم يلحظ هذا الاتفاق السياسي، في الاسباب المباشرة وغير المباشرة التي اسست لاندلاع هذه الحرب اللبنانية (1975-1990)، والتي نتج عنها مقتل أكثر من 150 ألف شخصا وجرح 300 ألف اخرين وفقدان ما يقارب الـ17 ألف شخصا. لذا فاننا نلحظ أن وجود قسم من الشعب اللبناني لا يزال مقتنعًا بأنّ الحرب اللبنانية لم تنته انما هدأت فحسب، فمع كل حادث امني، يصبح البلد على حافة الانهيار خوفا من التقاتل الذي تسكته كل مرة قاعدة "لا غالب ولا مغلوب".

وعلى اعتبار أن الحرب اندلعت بعد حادثة "بوسطة عين الرمانة" في 13 نيسان من العام 1975، كسبب مباشر لها، الا انه من الضروري البحث فيما اوصل لبنان الى لحظة الانفجار التي تمثلت باستهداف الحافلة، واذا ما بحثنا في الموقف الاقليمي والدولي، في القضية الملحّة في ذلك الوقت، فسنرى أن وجود اللاجئين الفلسطيني على الاراضي العربية كان الاساس الذي حرك المنطقة، وخصوصا في لبنان حيث ترافق السلاح مع بعض المنظمات الفلسطينية، وهذا اعتبر استفزازيا لبعض مكونات المجتمع اللبناني. فبعد مناقشات على مستوى المنطقة مع السلطة في لبنان، تم التوصل الى ما يعرف باتفاق "القاهرة 1969" والذي هدف لتنظيم ما سُمّي بالوجود الفلسطيني المسلح في لبنان، وخصوصا بعد أن قام الرئيس اللبناني آنذاك شارل حلو بإرسال وفد لبناني برئاسة قائد الجيش اميل بستاني إلى القاهرة للتحادث والتفاوض مع رئيس السلطة الفلسطينية الراحل ياسر عرفات، تحت إشراف وزير الدفاع المصري محمد فوزي"، وهنا ظهر فعليا ولأول مرة مصطلح النأي بالنفس أو حياد لبنان عن القضية الفلسطينية، لما قد تحمّل لبنان ما لا يستطيع، فبدأت المناوشات بعد هذا الاتفاق وخصوصا مع انقسام البلد حينها بين اليمين واليسار، فمنهم من كان متعاطفا مع الوجود الفلسطيني، واعتباره لاحقا حليفا استراتيجيا له في لبنان، ومنهم من طالب بضرورة تنظيم سلاح المنظمات لانه قد يشكل خطرا على الكيان اللبناني.

بالعودة الى يومنا هذا سنجد ان الازمة السورية تعصف اليوم بالمنطقة والعالم كقضية ملحّة، وتقسم العالم بين مؤيد ومعارض لفريقي النزاع في سوريا، كما أن امتداد هذه الازمة زمنيا حيث لامست عامها الثالث، سبب بتدفق اكثر من مليون ونصف المليون من النازحين السوريين الى لبنان. وهنا وبعد ان اشتدت هذه الازمة وانقسم لبنان كعادته، بين مؤيد ومعارض للفريقين المتناحرين، كما لو انها ازمة لبنانية غير قابلة للحل او النقاش، فقد قررت السلطة السياسية اللبنانية الحياد عنها رغم انغماسها في الحياة اللبنانية اليومية، على اعتبار ان لبنان سينأى بنفسه عن كل ما يجري حوله. الا انه ومع تطور الاوضاع في الميدان السوري، ومع زيادة الانقسام اللبناني، والتهديدات التي وجهتها بعض فصائل المعارضة السورية بنقل المعركة الى لبنان، كان لا بد لهذا الانقسام أن يزداد ويزيد معه الشرخ اللبناني، فكان لحادثة مقتل 17 شابا لبنانيا في بلدة تلكلخ السورية ولتدخل حزب الله من بعدها في بلدة القصير، الاثر الكبير على المجتمع الدولي، الى حد اعتبر لبنان جزءا لا يتجزء من الحرب القائمة في سوريا.

بدأت بوادر هذه الازمة تتجلى بشكل واضح في الميدان اللبناني، بعد تزايد جولات الاشتباك بين منطقتي جبل محسن وباب التبانة وما كانت توحيه من هشاشة الوضع الامني في طرابلس، دخل لبنان مرحلة السيارات المتفجرة المتنقلة بين الضاحية الجنوبية لبيروت والشمال، الى أن انتقل الى المرحلة الاخطر وهي دخول العنصر الانتحاري في التفجيرات الاخيرة، اصبح هذا البلد قريبا جدا من الوصف الذي اطلقه رئيس مجلس النواب نبيه بري "عرقنة لبنان". ولكن ما عقد الوضع اللبناني اكثر هو استقالة الحكومة، التي اسست لوجود مخاوف حقيقية لدى اللبنانيين من الوقوع في الفراغ في كل المؤسسات الدستورية وخصوصا مع اقتراب الاستحقاق الاساس الذي يتمثل بانتخاب رئيس جديد للجمهورية في ايار المقبل. هنا تم "تطعيم" الانقسام السوري في لبنان بمشاكل لبنانية، اثرت بشكل كبير على موضوع تشكيل حكومة تمام سلام، وما استتبعه من نقاش حاد حول اختيار بديل أو التجديد للرئيس ميشال سليمان، لما للقضيتين من ارتباط.

فبعد مرور أكثر من تسعة اشهر من الانتظار وعدم القدرة على تشكيل الحكومة تتضمن جميع الافرقاء اللبنانيين، بسبب الشروط والشروط المضادة، قرر رئيس الجمهورية ميشال سليمان، ورئيس الحكومة المكلف تمام سلام مدعومين من فريق 14 اذار تشكيل حكومة حيادية، بالرغم من رفض مكونات اساسية كـ"حزب الله" و"حركة أمل"، والحزب "التقدمي الاشتراكي". هذه الخطوة المتمثلة بتشكيل الحكومة ورغم ضرورتها في هكذا ظروف امنية واقتصادية، الا ان الطابع الحيادي لها سيؤدي الى عزل كل من رفضها وبالتالي ستعيد تكريس فكرة "غلبة فريق على اخر"، كما أنها قد تسبب بعودة الازمة الامنية في لبنان الى نقطة الصفر ما قبل اتفاق الطائف مما قد ينتج انفجارا قد لا يتحمله لبنان بشكل قاطع، وخصوصا مع اجتماع ظروف اقليمية ودولية غير قادرة على ضبط الوضع.